نحن لا نعرف متى تكون البداية. فقط نجد أنفسنا وقد تخطيناها لندرك لاحقًا أنها كانت البداية!
عند العاشرة مساءً انتهى العشاء والتسكع بين المحلات، وفي مرآب السيارات ودعته بحضن كما وعدته!
كان حضنًا دافئًا وشهيًا رغم انه كان خاطفًا، اشتم رائحة شعرها الزكية من أسفل غطاء رأسها وشعر بطراوة جسدها بين ذراعيه. ثم ذهب كل منهما في طريقه ليستعدا لغد جديد وشوق آخر وأمنيات تستحيل الحدوث!
وصل (عادل) شقته ثم بدل ملابسه وجلس بمنامته مسترخيًا في غرفة المعيشة يتابع شاردًا برنامجًا حواريًا على شاشة التلفاز. مرت عليه ساعة قبل أن يشعر بثقل جفنيه. النوم الهاديء يناديه فأغلق عينيه مستسلمًا للخدر اللذيذ... ثم هاجمه بغتة خفقان سريع في قلبه...!
فتح عينيه متوترًا، وقضب حاجبيه للحظات، ثم اعتدل في جلسته وهو يضع كفه بتلقائية فوق صدره. ما زالت ضربات قلبه سريعة. شعر أن عقله محتقنًا، وبدأ يسمع طنينًا خافتًا...
شعر بشئ غريب يتمدد بين عظام جمجمته، ثقل مهوول داخل دماغه. أحس وكأن عقله يزن مائة كيلو جرام...
تلفت حوله فزعًا في الشقة الخالية... ماذا سيحدث لو وقع له مكروهًا وهو وحده بالمنزل؟
ولكن أي مكروه قد يصيبه؟؟ نزيف بالمخ؟؟ هو ليس طبيبًا ولكنه تفسير وجيه...
هرول إلى الحمام وأشعل الضوء وطالع وجهه داخل المرآة المستديرة فوق الحوض. تُرى... ماذا يتوقع أن يرى؟؟ ما هي ملامح من يصابوا بنزيف في المخ؟ هل سيرى مثلًا دماءً تسيل من أنفه وأذنيه أو ربما من منابت شعر رأسه لتغطي جبهته وعينيه!؟
تقلصت أمعاؤه لغرابة الفكرة... إنه يتخيل فيلمًا مرعبًا ليس إلا...
عاود التدقيق في المرآة. لا شئ غير طبيعي. فقط عينين متسعتين ومتوترتين ووجه شاحب خائف. أنفاسه سريعة تغطي صفحة المرآة ببقعة رقيقة من بخار الماء... ما أن تبدأ في التلاشي حتى تتسع مجددًا مع زفير آخر...
خرج مسرعًا من الحمام. لابد أن يذهب للمستشفى. أين وضع البطاقة الطبية ؟؟ ربما في أحد أدراج المكتب...
هرول بخطوات مرتبكة إلى غرفة المكتب. غرفة صغيرة لها نافذة زجاجية تطل على الشارع ومغطاة بستارة زرقاء داكنة، بها مكتب صغير فوقه حاسوب شخصي مطوي، وخزانة خشبية تحوي عددًا لا بأس به من الكتب والدفاتر...
جلس على المقعد الجلدي الدوار وغاص فيه. هدأت انفاسه قليلًا حين استشعر برودته... ثم أشعل ضوء المصباح الموضوع فوق المكتبة وفتح الدرج العلوي إلي اليمين فوجد البطاقة هناك مستلقية فوق بعض الأوراق. نظر إليها مليًا.... ثم حانت منه التفاتة نحو حاسوبه الشخصي أمامه. لا يدري لم فعل هذا لكنه مد يده المرتعشة وفتح الشاشة فاستحالت بعد لحظات إلى لون أزرق باهر...
الضغط بداخل رأسه يزداد... شعر أن هناك شيئًا يريد الخروج. شيء قوي يريد الفكاك. صوت الطنين يعلو، وكأنه لغة ما بمفردات مبهمة تحاول الولوج إلى عقله... أو ربما الهروب منه!
أغلق عينيه بقوة ودفن رأسه بين كفيه الساخنتين، وخلف جفنيه المغلقتين وفي داخل ظلام عقله المضطرب شعر بحقيقة تتكوّن داخل وعيه. حقيقة لم تكن موجودة منذ لحظات. شئ ما يهمس داخل حنايا رأسه بدون صوت ويخبره بأن هناك رجلاً يحب إمرأة!
أجل. هناك رجل يعشق امرأة. متيّم بها ومسحور بجمالها. يكاد يراهما هناك في ضباب أفكاره البعيدة. لا يعرف اسم الرجل ولا اسم حبيبته. ولكن مهلًا... هناك حقائق أخرى تتشكل داخل وعيه. الرجل اسمه (هشام)... وحبيبته اسمها (مروة).... نعم... (مروة).....
أبعد وجهه عن كفيه وعاد يفتح عينيه المذهولتين. تسارعت أنفاسه أكثر وأصبح حلقه جافًا كالصخر. هناك أمر غريب يجري...
شعر بقوة هائلة تدفعه دفعًا كي يرفع كفه ويحرك أصابعه فوق لوحة المفاتيح السوداء ليكتب شيئًا. قوة تفوق قدرته على المقاومة. قوة تعطيه إحساسًا ممتعًا... إحساسًا باللذة... إحساسًا بالنشوة والشبق.... إحساسًا بالخلق والإبداع!
مد أصابع كفيه وفتح نافذة للكتابة فوق الشاشة. حدق في حواف حدودها وفي أعماق فضائها. المؤشر الأسود المعقوف يظهر ويختفي عند بداية السطر الفارغ منتظرًا أمرًا بالبدء.
شعر بقلبه يهدأ رويدًا، وبالصداع يخبو قليلًا فملأ صدره بالهواء وكتمه للحظات ثم أطلق سراحه ببطء.... وشرع في الكتابة!