الغُفران منحة سخيّة..
الغُفران نعمة النعم ومنتهى الأمل..
الغُفران هو طوق النجاة الوحيد!
سارا في الطرقات المظلمة متخفيين في هيئتهما الشيطانية. كل ما يهمها أن تطمئن عليه، وكل ما يهمه هو إجابة السؤال: ماذا سيحدث لو قرأ أحد الكتب المقدسة لبني (آدم)؟ لذا قرر أن يكون هدفه رجل دين.
أوقفته في زقاق مظلم تملؤه مياه الصرف الراكدة، والقمامة، والرائحة العفنة، ثمَّ هتفت:
- توقف، أريد أن أفهم.
- تفهمين ماذا، نحن نمارس العمل كالمعتاد.
- كالمعتاد؟؟ وهل إغواء رجال الدين تُعتبر من الأعمال المعتادة؟
- نعم، عمل مثل أي عمل آخر.
- كم رجل دين أغويته قبل الآن؟؟ من نحن لنقترب من رجل دين يمتلك سحر الملائكة؟
لم يرد، بقى صامتًا لا يحرك ساكنًا، بينما بعض الكلاب تنبح عليهما عن بعد.
اِسترسلت (سيرا):
- أنت تعرف أن رجال الدين خطرون، ويحتاجون كثيرًا من الوقت والعلم قبل العبث معهم، وهذا ما لا يتوفر لعمال الشياطين العاديين أمثالنا، هذه المهمات يقوم بها شياطين الصفوة، وربما يحيلون الأمر برمته للملك (إبليس)، لا تبالغ في تقدير قوتك!
- رجال الدين بشر مثل أي بشر، وسهل إغوائهم لأنهم يعانون كثيرًا من الحرمان، وسيكون لنا قدر كبير بين عشائر الشياطين إن نجحنا في مهمتنا.
- (كاز)، أنت لا تريد إغواء رجل دين.
نظر إليها دون أن يرد، فأكملت هامسة كي لا يسمعها الشياطين الذين يمرحون بصخبٍ في الزقاق القذر من حولهما:
- أنت تريد زيارة رجل دين كي تقرأ كتب البشر المقدسة، أليس كذلك؟
لم يعقب، فقط رفع نظره للنجوم، فأكملت:
- كتب البشر مسحورة ومحرمة علينا، ألا تخشى الموت أو العقاب؟
- لا، الشيطان الحقيقي لا يعرف الخوف.
- هذه ليست شجاعة، إنها حماقة.
رمقها غاضبًا وأشاح بنظراته بعيدًا عنها، فدارت حوله، وقالت:
- أنا أخاف عليك!
نظر إليها مجددًا ولم يفهم ما تقول. حتَّى هي نفسها لم تعرف كيف تفسر ما قالت:
- ولو، لا داعي للخوف.
- وإن احترقت؟
- لن أحترق، نحن نسمع قرآنهم وأنجيلهم أثناء صلاتهم ولا نحترق، بل نواصل إلهاءهم!
- نحن نسمعه من أفواههم ولكن لا نقرأه بأنفسنا.
- أعتقد أنه ليس هناك فارق.
- وإن اِكتشف رجل الدين وجودك، وقرأ عليك تعويذة ما، واستدعى أحد الملائكة الحراس؟
- سنهرب بسرعة.
- وإن لم نستطع؟
- أتركيني إذن، سأتحمل الموت أو العقاب وحدي.
- ماذا؟
لم تصدق أنه قالها، ولم تصدق أن تفعلها وتتركه بمفرده، أي عبث هذا الذي يحدث لها؟!
عاود الانطلاق وحيدًا في الظلام بين عشرات البيوت الغافية، فلحقت به ومشت إلى جواره دون أن تتكلم.
على الرغم من أن مظهر المدينة قد اِختلف كثيرًا عن آخر زيارة له؛ فالمنازل صارت طوبية وليست خشبية، والطرقات غطيت بالقار الأسود أو الأحجار الملساء، إلَّا أن (كاز) عرف طريقه جيدًا. اِتجه إلى حيّ صغير يقطنه متوسطو الحال والبسطاء.
اِستجمع قواه وبحث بعينيه وعقله في البيوت حتَّى وجد ضالته. بيت يسكنه شاب مسلم، على مشارف الثلاثين من عمره، يُدعى الشيخ (عبد الله). يؤم الناس في الصلاة كل يوم، داخل مسجد صغير يقع عند نهاية الشارع.
إنه الفجر، وقت أول صلاة للمسلمين في اليوم. اِرتفع صوت الآذان عذبًا، وحمله صمت الليل على أكتافه، وحلق به عاليًا، ونثره في كل مكان. اِرتعدت (سيرا) وارتمت في أحضان (كاز) تستند عليه. ضمها وخبأها بين جناحيه، رغم شعوره بالدوار.
إن كان النداء المسحور لصلاة المسلمين يصيبه بالضعف هكذا، فماذا سيحدث لو فتح كتابهم المقدس وقرأه؟؟ هكذا فكر ولكن ذلك لم يثنِه عن رغبته المحمومة.
اِنفتح باب المنزل مصدرًا صريرًا ناعسًا، وانسل منه (عبد الله) بقامته المتوسطة وجسده النحيل. انطلق بخطوات نشيطة وثّابة، مرتديًا جلبابًا داكنًا وطاقية بيضاء. وعلى ضوء القمر الذي ينير الطريق المبلطة، شاهدا عددًا من الرجال يخرجون من الأبواب المتقابلة على ضفتي الزقاق في طريقهم للمسجد.
نظر (كاز) إلى (سيرا) فهزت رأسها محذرة. لكنه جذبها وعبرا خلال الحوائط، حتَّى وصلا إلى منزل الشيخ وتسللا إلى داخله، حيث فوجئا بحشد من الملائكة المسبّحة يملأ المكان!
لم يهتم (كاز) بهم وجذب (سيرا) وعبرا إلى غرفة النوم.
وجدا (سميّة) زوجة (عبد الله) فوق فراشها تتقلب في سبات خفيف. حاولت القيام للصلاة فأسرعت (سيرا) تقفز فوقها. ثبتت ذراعيها على الفراش ومالت على أذنيها، وهمست لها بأنها متعبة ولا يضيرها النوم للحظات إضافية، وأنها حتمًا ستستيقظ كي تدرك الصلاة قبل فوات أوانها. العمل بالبيت مضن، وخدمة زوجها مرهقة، والفراش مريح وبارد وعميق، وظهرها يؤلمها كثيرًا!
قاومت (سمية) أكثر، وحاولت رفع رأسها، لكن (سيرا) أسرعت تغطي وجهها بجناحيها، وواصلت الهمس في عقلها إلى أن خمدت المرأة تمامًا.
- أحسنتِ!
قالها (كاز) وهو يفتش عن كتاب المسلمين المقدس، فردت عليه (سيرا) منهكةً:
- على الأقل واحد منّا يؤدي عمله.
لم يعقّب، كان منهمكًا في البحث. لم يجد شيئًا فتركا غرفة النوم وانسلا إلى غرفة أخرى لها نافذة صغيرة مغطاة بستارة مزركشة طويلة، وبها مكتب خشبي، خلفه خزانة عريضة تمتلئ بالكتب. نظرا لبعضيهما للحظات قبل أن يقترب (كاز) من المكتب حيث هناك كتاب كبير مفتوح. كتاب أوراقه بيضاء مزخرفة الحواف، وسطوره مكتوبة بالحبر الأسود، كان ذلك هو كتاب المسلمين المقدس؛ المصحف!
أمسكته من عباءته لتوقفه ونظرت إليه متوسلة، لكنه أبعدها برفق، واقترب من المصحف واستجمع شجاعته. لو مر عليهما شيطان آخر، أو لمحهما واحد من الجلادين لقضي أمرهما. ولو لم يلحظ وجودهما أحد، وقرأ هو ما في الكتاب المسحور سيحترق مكانه!
في كلتا الحالتين هو هالك لا محاله، والحل الأمثل هو أن يفر من المكان بسرعة وينسى شكوكه السخيفة. لكنه عوضًا عن ذلك اِقترب ببطء من الكتاب!!
مشاعر المغامرة المجنونة تشحنه، وفوران شبابه الفتيّ يدفعه إلى اِقتحام التجربة، والشك المتسلل بين طيات يقينه يسيطر عليه كليةً.
بعينيه الشيطانيتين المولودتين في الظلام قرّب وجهه من المصحف، وبدأ ينظر إلى الصفحات البيضاء، إنه يعرف حروف كل لغات البشر. بدأ القراءة بحذر. قرأ حرفًا، وأتبعه بآخر، ثمَّ ثالث. قرأ كلمة كاملة ثمَّ كلمة ثانية وثالثة، ولم يحدث له شيء.
اِلتفت إلى (سيرا) التي وقفت مجمدة مكانها والذعر يملأها. طمأنها بعينيه وعاود النظر إلى المصحف المفتوح. اِقترب منه أكثر وتابع القراءة. الكلمات غير مألوفة، ليس ككلمات العرب التي يتكلمونها في كل بلدانهم، هذا كلام لا يفقه منه شيئًا!
عاود المحاولة مجددًا، ركز أكثر، واستدعى كل حواسه المرهفة ليفهم المكتوب، كانت كلمات غريبة، وليست من هذا العالم بالتأكيد.
تجمعت الأحرف والعبارات في ذهنه لتشكل معنى، وترسم صورة، وتزرع يقينًا.
الكلمات تتحدث عن الأخيار من البشر، تصف ما سوف يجدونه من هناء وسعادة أبدية داخل الجنة. ماذا؟ هل هناك مؤمنون من البشر سيدخلون الجنة؟؟ بعد كل ما فعلوه، يكون جزاؤهم الجنة؟؟
واصل القراءة بنهم ثمَّ بدأ يستشعر سخونةً تدب في أطرافه. فقد اِتزانه للحظات. الكلمات تتداخل وتتلون أمام عينيه بلون ذهبي براق. هناك ثقل يسري في أنحاء جسده. وفي لحظة ملأ الصفحة ضياءٌ باهرٌ ساطع، واختفى كل شيء!!
لا يقدر على غلق عينيه، لا يستطيع تحريك جناحيه، لا يقوى على الفكاك، لقد حدث ما يخشاه!
قاوم بكل قوته، حاول التراجع أو التملص، ولكن بلا فائدة، صار كالمشلولين من البشر. هناك من يكبله ويشده إلى داخل فوهة الضوء الحار.
في النهاية أدركه التعب، وقرر مرغمًا أن يستسلم. لا بد أن يدفع ثمن حماقته. ليته أنصت لنصيحة (سيرا).
أغلق عينيه وترك ثقل جسده يهوي أعمق وأعمق داخل الكتاب المفتوح.
الألم يعصف بجسده، ووعيه ينسحب هاربًا، وروحه تلملم أطرافها من أنحاء كيانه لتغادره، ولكن بغته، شعر بيدٍ تدفعه بقوة بعيدًا عن الكتاب.
هوي مكومًا في ركن الغرفة. اِختفى الضياء الساطع، وشعر بالبرودة تلفه وبالظلام يطبق على رؤيته، ثمَّ سقط في دوامة حلزونية سوداء، وفي داخله تساءل: هل اِحترق وهلك؟!